في الرحمة والتسامح

في الرحمة والتسامح

أطروحة التسامح التي طرحها الرئيس الراحل نيلسون مانديلا والتي إقترنت بمقولة “نحن نغفر لكننا لا ننسى!” هذه الأطروحة التي أنقذت إفريقيا من دخول حرب أهلية محتمة، التي أطلقها مانديلا عندما رغب شعبه بالإنتقام ومحاسبة كل من ساهم في ظلمهم، نيلسون مانديلا المكافح الذي سجن سبعة وعشرون عاما مريرات ظلما ذاق فيهن أشكالا وألوانا من العذاب والعنف الجسدي والنفسي لإنه قرر الدفاع عن حقوقه وحقوق السود السكان الأصليين لجنوب إفريقيا الذين تعرضو للتمييز والفصل العنصري من قبل الأقلية ذوي البشرة البيضاء، قرر إختيار التسامح والغفران والرحمة المطلقة عندما إمتلك القدرة الكاملة على الإنتقام، إن قصة مانديلا وسلوكه وأطروحته من أفضل الأمثلة وأروعها عن التسامح. يعتبر كثير من الناس التسامح ضعفا ولكن كل الأشخاص الذين تحدثوا عنه من علماء ومناضلين سياسين وأشخاص عاديين نسبوه للأقوياء وأستشهد هنا بمقولة المهاتما غاندي الشهيرة: الضعيف لا يمكن أن يسامح فالتسامح من صفات الأقوياء. يقول مصطفى محمود في كتابه عصر القرود: أن الرحمة أعمق من الحب وأصفى وأطهر، والرحمة عاطفة إنسانية راقية مركبة، ففيها الحب وفيها التضحية، وفيها إنكار الذات وفيها التسامح، وفيها العطف وفيها العفو، وفيها الكرم. كلنا قادرون على الحب بحكم الجبلة البشرية وقليل منا هم القادرون على الرحمة.

يذكر الدكتور وليد فتيحي في إحدى حلقاته عن التسامح أن هناك علاقة وطيدة بين العفو والتسامح وصحة الإنسان ويضيف ناقلا عن كتاب مايكل بيري في كتابه عن علاج الأمراض السرطانية (إن فقدان القدرة على العفو والصفح والمسامحة هو في حد ذاته ظاهرة مرضية تؤثر سلبا على صحة الإنسان وأنه من المثبت علميا أن التوتر العصبي الناتج عن عدم العفو والصفح والمسامحة يضر بالجهاز الهضمي والأوعية الدموية ونظام المناعة في الجسم). ويكمل قائلا “أن المشاعر السلبية مثل البغض وعدم العفو والصفح لمن نعتقد أنه ظلمنا أو حرمنا تسبب تغييرا جوهريا في مسار طاقة الحب الطبيعية في الجسم مما يؤدي الى إفرازات المواد الكيميائية والإشارات الكهربائية في الجسم بشكل عام وخاصة تلك الموجودة في الدماغ مما يجعل الإنسان أقل قدرة على التفكير بصورة واضحة وإتخاذ قررات صائبة”.

ويصنف الدكتور إبراهيم الفقي طاقة عدم القدرة على التسامح من ضمن أسوء أنواع الطاقة ويرى أن التسامح والغفران هما أساس الطاقة المجردة أي النقية تماما. ويربط هذه الطاقة بالعقل موضحا أننا نملك عقلا عاطفيا وآخرا تحليليا والعقل العاطفي هو المسؤول عن الطاقة العاطفية والتي من ضمنها التسامح وهو مسؤول أيضا عن الهجوم أو الهروب وعندما ننزعج من شخص معين يشتعل هذا العقل ويصبح أمامه خياران إما الهجوم وإما الهروب وهنا تستنزف طاقتك على سبب غير مهم فعليا وسبب وجود هذا العقل هو الدفاع عن حياتنا فنهرب من وجود خطر أو نهاجم للدفاع عن أنفسنا، ويشرح أن العقل التحليلي وهو المنطقي يأخذ الطاقة الموجودة في العقل العاطفي ويحولها إلى معلومات منطقية يستخدمها الإنسان لتحقيق أهدافه، ويشرح ما يحدث عندما نفكر بشخص نحن منزعجين منه حيث تتدفق هذه المشاعر وهي بالأصل عبارة عن طاقة بإتجاه هذا الشخص وتعود هي ذاتها إلينا وهنا نحن نؤذي أنفسنا بلا وعي منا وهذا هو قانون الرنين أو الإنجذاب، لذلك من المهم جدا المسامحة دائما حتى نستغل طاقتنا لتحقيق أهدافنا.

ويستشهد بتجربة عملية قام بها علماء بأخذ عينة من الأحماض التي يفرزها الإنسان عندما يشعر الإنسان بعدم التسامح بإتجاه شخص آخر ووضعوها في طعام للفئران وحدث ما فاق توقع العلماء وهو موت الفئران، والسؤال ماذا تفعل بنا وبصحة أجسادنا هذه الأحماض الناتجة عن الحقد أو الرغبة بالإنتقام وعدم التسامح؟… ويشرح الفقي أن التسامح المتكامل يتطلب توافق العقل العاطفي والتحليلي ويحصل هذا عندما نجد تفكيرنا بشخص أساء لنا خالي من السلبية بإتجاهه وبإتجاه ما يتعلق به، وأن الذات السلبية في الإنسان هي التي تغضب وتأخذ بالثأر وتعاقب، بينما الطبيعة الحقيقة للإنسان هي النقاء وسماحة النفس والصفاء والتسامح مع الآخرين. ولحاجة العالم والبشرية الماسة لإعتناق خلق وقيمة التسامح حضرت اليونسكو وثيقة تتضمن مبادئ حول التسامح وأذكر بعض موادها المرتبطة بما سلف ذكره:

إن التسامح يعني الإحترام والقبول والتقدير للتنويع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا، ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والإنفتاح والإتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد، وإنه الوئام في سياق الإختلاف، وهو ليس واجبا أخلاقيا فحسب، وإنما هو واجب سياسي وقانوني أيضا، والتسامح هو الفضيلة التي تُيسر قيام السلام، ويسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب. لا يعني التسامح الإذعان أو التنازل أو التساهل فالتسامح قبل كل شيء هو موقف فاعل ينشأ عن الإقرار بحقوق الإنسان العالمية والحريات الأساسية للآخرين، ولا يجوز بأي حال إستغلال التسامح لتبرير المساس بهذه القيم الأساسية، وينبغي على الأفراد والجماعات والدول أن تمارس التسامح. إن التسامح أمر جوهري في العالم الحديث أكثر منه في أي وقت مضى، فهذا العصر يتميز بعولمة الاقتصاد وبالسرعة المتزايدة في الحركة والتنقل والاتصال، والتكامل والتكافل، وحركات الهجرة وانتقال السكان علي نطاق واسع، والتوسع الحضري، وتغيير الأنماط الاجتماعية. ولما كان التنوع ماثلا في كل بقعة من بقاع العالم، فإن تصاعد حدة عدم التسامح والنزاع بات خطرا يهدد ضمنا كل منطقة، ولا يقتصر هذا الخطر على بلد بعينه بل يشمل العالم بأسره.

والتسامح ضروري بين الأفراد وعلى صعيد الأسرة والمجتمع المحلي، وأن جهود تعزيز التسامح وتكوين المواقف القائمة على الانفتاح وإصغاء البعض للبعض والتضامن ينبغي أن تبذل في المدارس والجامعات وعن طريق التعليم غير النظامي وفي المنزل وفي مواقع العمل. وبإمكان وسائل الإعلام والاتصال أن تضطلع بدور بناء في تيسير التحاور والنقاش بصورة حرة ومفتوحة، وفي نشر قيم التسامح وإبراز مخاطر اللامبالاة تجاه ظهور الجماعات والأيديولوجيات غير المتسامحة. تتعدد أنواع التسامح فمنها الفكري والثقافي والديني والسياسي إلى جانب مسامحة الآخرين و يشمل التسامح قدرة الإنسان على مسامحة نفسه وإنها عمليا من أصعب أنواع التسامح، فمثلا نجد شخص سافر للدراسة خارج البلاد وفي هذه الأثناء توفت والدته فيعيش بقية عمره يردد أنه لا يستطيع الغفران لنفسه لبعده عن والدته، ودعونا نقول إن قدرة الإنسان على مسامحته لنفسه تمنحه دافعا أكبر وأصدق على مسامحة الآخرين.

التسامح وأثره على الصمود المجتمعي

فرد متسامح في أسرة متسامحة ضمن مجتمع متسامح، يعزز هذا الصمود المجتمعي فلا يستطيع أحد نشر الفتنة بين أفراد المجتمع، ولا ينقسم أفراده ضد بعضهم البعض، ولا يكن أحد لأحد مشاعر الحقد أو الكراهية، إن فكرة قيام مجتمع صامد تعزى أساسا إلى وجود أفراد متحابين يحملون السلام في قلوبهم، التسامح ليس مجرد كلمة إنه سلوك وصفة ومبدأ إنساني سامي جد. إن التحلي بالتسامح يجعلنا مؤهلين لخوض أي نقاش أو حوار مع أي شخص، يصبح الإنفتاح على الآخرين أسهل ومرن أكثر، فهو مصدر للتقبل وراحة النفس.

نور هاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *